الاثنين، 4 فبراير 2013

القياده فن وذوق


كنت اقف كثيراً في سورة النمل عند الآية " وتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِي لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنْ الْغَائِبِينَ * لأعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ"

الوقفة الأولي: كيف لاحظ سليمان غياب الهدهد وسط هذا الجيش الجرار من الجن والانس وما سواهما من خلائق؟ هكذا القائد يعرف امكانياته وجنده وقوته وخطته واهدافه، لا يصح ابداً ان يكون... القائد مغيباً لايدري عن شئون الحكم وتفاصيله.

الوقفة الثانية: حين توعد الهدهد بالعذاب لغيابه دون عذر، وهكذا القائد اذا وجد التسيب واللامبالاه بين صفوف جنده، يجب ان يتحلي بالحزم لا سيما وان غياب الهدهد كان علي الملأ وامام الجند فكان الموقف الحازم لسليمان والا انفلتت منه الامور. وهكذا يجب أن يكون القائد الحازم.

الوقفة الثالثة: موقف الهدهد، الجندي الطير الضعيف، " فمكث غير بعيد" يعني اقترب من سليمان ولم يخشاه ولم يهابه رغم علمه بعزمه علي عقابه، موقف نادر وملفت، فالهدهد يعلم حزم وشدة سليمان لكنه يعلم عدله وحكمته أيضاً. الهدهد موقفه قوي لم يقترف اثماً ولم يخطيئ بالعكس لقد كان في قمة الايجابية حين وجد امراً يمس عقيدة الايمان وأمن اقرانه، ذهب ليستطلع الامر ليعود للقيادة بتحليل كامل وواضح.

الوقفة الرابعة: حين كلم الهدهد الجندي الضعيف سليمان اعظم الملوك علي مر العصور قائلاً " أحطت بما لم تحط به" أي قوة تلك؟ بل أي علاقة هذه بين الجندي والقائد؟ لم يخش الجندي ان يخبر قائده أنه يحيط بعلم لا يعلمه قائده، وأي قائد هذا الذي يتفرغ من شئون الحكم ووطئتها ليسمع ل " عسكري" بسيط؟ وانظر مرة اخري الي قوة منطق الهدهد في كلمة " أحطت" فالإحاطه في اللغة هي ان يلم الشخص بكل جوانب الامر عن يقين تام، لا ان يأتي الجندي بمعلومات باهته او غير أكيده عن دسائس واصابع واطراف تالته ورابعه؟

الوقفة الخامسة: في تفاعل سليمان مع المعلومات ومكافأته للهدهد بالمزيد من المهام ثم توجهه لجنوده وقادته لحشد كل القوي للتعامل الفوري مع الموقف ويبادر بأخذ الزمام والاخذ بالأسباب مش يسيب الدنيا تضرب تقلب ويطلع علينا بعد خراب مالطه ببيان او خطاب او تويته.

ومازالت تلك الايات تستوقفني في كل مرة أقرؤها. انها درس رائع في فن القيادة والجندية والادارة والحكم.


مثال رائع لقائد قوي وشعب يدرك حقيقة قضاياه وجند متجرد لتلك القضايا.

وأقف معكم عند قصة ذو القرنين في سورة الكهف:


ذو القرنين وبرواية القرآن هو أحد أعظم وأقوي القادة في التاريخ، يكفي أن الله سبحانه وتعالي وصف قوته وإمكانياته بقوله جل وعلا " إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا "

أتدرون ماذا فعل حين طلب منه اقامة سد يحمي القوم الضعفاء من يأجوج ومأجوج؟


لم يقبل بال...مال بل أشركهم معه في هذا العمل الضخم وحدد لهم دورهم قائلاً " فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ "


لم يكتف بوضع الخطوط العريضة بل حدد لهم بدقة ما سيفعلونه ولم يترك لهم الأمر مبهماً فقال " آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا "

هكذا القائد، يشرك معه الرعية وإلا وقفوا في مقاعد المتفرجين لا تعنيهم القضية ولا يدركون أبعاد الموقف ولا خطورة التحديات.

لم يكن بناء السد مجرد أمنية أو اقتراح أو مسودة مشروع، بل كان خطة عمل واضحة بذل فيها الجهد والعرق والنار والنحاس المنصهر وآلاف القطع الحديدية التي بذل فيها جهد خرافي لتجميعها ثم الغبار والتراب والردم لاخفاء معالمه من الخارج، وحتي زماننا هذا ورغم التقدم العلمي المذهل واستكشاف الفضاء والمجرات، لم نعثر لهذا السد المنيع علي أثر.

تخيلوا لو كان ذو القرنين بني سداً مجرد "سد خانه" لتهدئة القوم المساكين ولم لا وهم " لا يكادون يفقهون قولا" مساكين، نرضيهم بأي وعود والسلام وعندما يأتي يأجوج ومأجوج يفرجها ربنا!!! تخيل لو تعامل ذو القرنين بهذا المنطق؟ أعتقد أن البشرية كانت ستفني عن آخرها.

القائد يا سادة لا يستحق شرف القيادة مالم يشرك معه الرعية ويحدد لهم دورهم بكل دقة، والرعية لن تذعن إلا لرجل يرسم لها طريقها ويحدد لها أهدافها ويوضح لها دورها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق